بقلمي أصالة أبو عبيدة
على العتبة
الوقت الابنُ العاقُّ لكُلِّ مَن طحنَ الخذلانُ ضلوعَهُ، والصديقُ السيءُ لكُلِّ الذين نجوا من الحبِّ بأُعجوبةٍ، والطّفل الذي يعبثُ بالذكرياتِ متلذِّذًا بجروحِ الدّقائق، وكم خفتُ من الوقتِ وكم كرهتُ الثّوانيَ والسّاعاتِ وكم آلمني سيرُ الدّقائق على نبضاتِ قلبي الصغير، ووقفتُ أمامَ الوقتِ شامخةً ظنًا منّي أنّهُ سينقضي ولكنَّة انقضَّ عليَّ وفتَّت كلَّ مساعِيَّ في الهروبِ منهُ ومجابَهَتُهُ، وأرغَمَني على فتحِ كل الصُّورِ واسترجاعِ كل الكلمات وعنوةً عني سحبَ بيدي لأكتبَ لك هذه الكلمات.
كان يقولُ لي جدي دائما : ” في الوقتِ الذي لا تعلمين فيهِ طريقَ البدايةِ ابدئي من أيِّ نقطة “، وظننتُ نفسي أنّني لا أعلم من أينَ الطريق وكيفَ أصلُ اليه، إلّا أن رأيتُ كيفَ اغتيلت قدسيةُ حبي في عينيكَ وأدركتُ حجمَ الوجعِ الذي سكنَني بإقصائِكَ لي، ولكن وكطالبة مجدة وفلسطينية تعلمتْ أن تقفَ أمامَ أوجاعِها بكُلِّ صمود ،كان عليَّ أن أقفَ أمامَك وأرى في عينيكَ كيفَ يكونُ الإنسانُ شيئًا ويصبحُ لاشيء، كان عليَّ أن أرى تقاسيمَ ملامحَكَ المُخيفةِ وأدرِّبُ نفسي على استقبالِها بِكلِّ صمود ، كان عليّ أن أُدرِكَ حَجمَ الضجيجِ في قلبي المتأجج بصوتِ ضحكاتك مع مَن هُم أقل، وكان يَجبُ عليَّ أن أقِف أمامَك لأُشاهِد موتَ الفراشاتِ اللواتي خبَّأتُهنَّ في صدري طيلةَ سنين ، وأن أغسلَ بدمائِهنَّ براءتي التي ما انفكَّت تركضُ منّي اليكَ، علي بذلك أن أكونَ أقوى.
ووقفتُ أمامَكَ مدركةً بأنَّنا نحنُ الفلسطينيون ملطخون بالدِّماءِ وإنْ لم نعشْ الثورةَ أو النكبةَ، وأنّه لا وقتَ لدينا لاستجداءِ عطفِ أو نيلِ مودةٍ وأنَّ طريقنا طويلٌ وطويلٌ جدًا قدْ تعطِّلُه بعضُ المحطاتِ لكنها تصنعُ مِنه رمزًا مشرقًا في المستقبلِ، وعهدتُ إلى نفسي أن أمزِّقَ كل الصورِ وأنْ أغتالَ كل الذكرياتِ وأنْ أدوسَ على قلبي بقلبي وأمضي، ولم أكنْ أعلم أن عهوديَ لن تكونَ أفضلَ من عهودِ بني إسرائيل، وأنّها بكلمةٍ منكَ ستُنقَض، وسأدفعُ عمرًا بأكملِهِ كفارةً لذلك.
وهرعتُ إلى جروحَكَ مسرعةً وتكفلتْ يداي النحيلتان بتطبيبِ الخوفِ في عينيكَ وإزالة القلقِ المُتسيِّبِ في عروقِكَ والوجعِ الممتدِّ في كافةِ أنحاءِ جسدِكَ، وما إن بَرأَتْ جروحُكَ حتى وقفتَ زائرًا في وجهِيَ متنكرًا لفضليَ معتدًّا بِقوَّتِكَ، وما علمتَ أيُها الأحمق، أنّ قوَّتَكَ زائِلة بزوالِ قوَّتي وباقيةٌ ببقائِها، أمَا علمتَ أنَّ ذكاءَك يتبدَّدُ كغيومِ الصَّيفِ الهاربةِ بحضورِ ذكائي ؟ ، وما أدركتَ بعد هذا العمرِ أنّهُ مهما ارتفعَ طائرُكَ يقتنِصُهُ طيري؟ ، وعلمتني أيها الأحمق الكثير والكثير.
علمتني أن الذكورَ متمرسون في الصيدِ ولا يختارون إلا أجودَ الضّحايا، علمتني أن الذكورَ يقفون على كلّ المحطاتِ وتهزُّهم كلَّ ترددات أصوات الإناث مهما كانت رديئة، علمتني أن الذكورَ تحركهم الإناث مهما كُنَّ وكيف كُنَّ، وعلَّمتْني أنَّ الرِّجال لا تهزهم إلا امرأة واحدةً ومختارة بعنايةٍ، وأن قلوبَ الرِّجالِ طاهرةٌ وربما أكثر من قلوب العذارى ولا يمسها إلا أمرأةً واحدةً وتفوقهم بالطهر أو أقل من ذلك بقليلا، وعلمتني أنّ الرجالَ جذورُ حبِّهم كجذورِ الزّيتون متينة وأصيلة وأن رياحَ النِّساءِ في المحيطِ لا تزيدها إلا امتدادًا وتجذُّرًا وقوةً وإنباتًا ،وأن حبَّ الرِّجالِ يطرحُ ثمارَهُ في كلِّ موسمٍ وكلِّ شهرٍ وكلِّ يومٍ وكلِّ دقيقةٍ.
وعلمتني بذلك أنَّه على النساءِ أن يلدْنَ أوجاعَهنَّ بدونِ صراخٍ ولا بكاء ولا انتحاب، وعليهنَّ أنْ يلفظنَ آلامهنَّ بل عليهنَّ حتى أنْ يبتَلِعنَها، لأنَّ الموروثَ الشرقِيِّ الذي وُلِدنا في براثينِه يُزعِجُهُ أنينُ النِّساءِ المخنوقات من حولِهِ ويكسرُ غفوَتَهُ وإن حصلَ سيغضَبُ وما أدراكَ ما غضَبُهُ، وابتلعتُ وجعي وكنتُ معكَ امرأةً بكاملِ ربيعِها ولم تكنْ معي أكثر مِن ذكر.